الثلاثاء، 25 مايو 2021

طلقة في الجنب

 


طلقة في الجنب

أو قصة حياة 
(  أوكونورفلانري  )      

طلقة في الجنب

 

كانت ماري فلانري أوكونور طفلة نشأت في مدینة سافانا) بولایة جورجیا) وكانت تشعر برابطة قویة وغریبة بوالدها إدوارد، وكان بعض ذلك نابعًا بصورة طبیعیة من تشابه صورتیهما على نحو لافت؛ فكانت لهما العینان الكبیرتان الثاقبتان نفساهما، وتعابیر الوجه نفسها، والأهم من ذلك بالنسبة لماري أن طریقتیهما في التفكیر والشعور بدتا متناغمتین تمامًا، وكانت تحس بذلك عندما كان والدها یشترك في الألعاب التي تخترعها؛ فكان ینزلق بصورة طبیعیة جدا في روح ألعابها، وكان خیاله یتحرك في الاتجاه نفسه الذي یذهب فیه  خیالها؛ فكانت بینهما طرق للتواصل بلا نطق كلمة واحدة.

 

وكانت ماري الطفلة الوحیدة لأبویها، ولم تكن تشعر بالمشاعر نفسها تجاه أمها ریجینا التي

كانت تنحدر من طبقة اجتماعیة أعلى من طبقة الأب، وكانت عندها طموحات بأن تصبح شخصیة مرموقة في المجتمع المحلي، وأرادت الأم أن تجعل ابنتها التي تحب الكتب وتحب العزلة سیدة مثالیة من سیدات الجنوب، إلا أن ماري العنیدة المتصلبة لم توافقها؛ فقد رأت ماري في أمها وأقاربها أناسًا یمیلون إلى الشكلیات والسطحیة، وفي سن العاشرة رسمت جملة من الرسوم الهزلیة لهم، وسمَّتها أقاربي. وبروح عابثة، سمحت لأمها وأقاربها أن یروا الرسومات، فصدموا بطبیعة الحال؛ لا بالطریقة التي رسمتهم بها وحسب؛ بل أیضًا بالذكاء الحاد لهذه الطفلة ذات العشر سنوات.

إلا أن والدها رأى في تلك الرسومات الهزلیة شیئًا بهیجًا؛ فجمعها في دفتر صغیر كان یریه

لزواره، لقد تنبأ بمستقبل عظیم لابنته في الكتابة؛ وكانت ماري تعلم منذ وقت مبكر أنها مختلفة عن سائر الأطفال، وأنها غریبة بعض الشيء، فاستمتعت بالفخر البادي على والدها بخصالها غیر المألوفة.

وكانت تفهم والدها جیدًا، لدرجة أنها خافت عندما أحست في صیف سنة 1937 بتغیر في طاقته

وروحه، وكان التغیر دقیقًا في البدایة؛ طفحٌ في وجهه، وإرهاق مفاجئ یحس به بعد الظهر، ثم أخذ یستغرق في قیلولات تزداد طولًا یومًا بعد یوم، ویعاني نوبات متكررة من الحمَّى،وانتشرت

الأوجاع في جسمه كله، وكانت ماري تسترق السمع أحیانًا من أبویها وهما یتحدثان وراء الأبواب المغلقة عن اعتلال صحته، فكان ما استطاعت سماعه شیئًا خطیرًا للغایة.

 

فتجارة العقارات التي بدأها والدها قبل بضع سنوات لم تكن تسیر على ما یرام، وكان علیه

التخلي عنها، وبعد بضعة أشهر استطاع الحصول على وظیفة حكومیة في مدینة أطلنطا عاصمة ولایة جورجیا، إلا أن الأجر كان متواضعًا؛ ولتتدبر الأسرة مشكلة میزانیتها المحدودة انتقلت ماري مع أمها إلى منزل واسع یملكه أقاربها في بلدة میلدجفیل وسط جورجیا غیر البعیدة عن أطلنطا.

وفي سنة 1940 تدهورت صحة الأب وكان أضعف من أن یستمر في وظیفته؛ فانتقل عائدًا إلى مدینته، وفي الشهور القلیلة اللاحقة شاهدت ماري والدها الحبیب یزداد ضعفًا وهزالًا یومًا بعد  یوم، متعذبًا بآلام شدیدة في مفاصله، إلى أن مات أخیرًا في الأول من شباط/ فبرایر سنة 1941 وعمره 45 عامًا. وبعد أشهر من وفاته علمت ماري أن مرضه كان یدعى (الذِّئبة الحُمَامیَّة)؛ وهو اعتلال یجعل الجسم یصنع مضاداتٍ تهاجم الأنسجة السلیمة وتضعفها، ویعرف الیوم باسم (الذئبة الحمامیة الجهازیة)، وهو أخطر أشكال هذا المرض.

وشعرت ماري عقب موته بأنها مصدومة لدرجة تمنعها من الحدیث مع أي شخص عن خسارتها إیاه، إلا أنها أفضت في دفتر خاص لها بتأثیر موت أبیها فیها، فكتبت تقول لقد صدمتنا حقیقة الموت، وحطَّم وعیُنا ، لقد كان الأمر أشبه بطلقة في الجنب، ونزل علینا  إحساس بالفاجعة، إحساس بالمأساة، إحساس باللانهایة، فملأنا بالحزن، وفوق الحزن العجب لقد شعرَت كأن جزءًا منها مات مع أبیها، فقد كانت حیاة أحدهما متعلقة جدا بحیاة الآخر، لكن  بعد الجرح المفاجئ والعنیف الذي أصابها، أخذت تتساءل عما یعنیه ذلك أي الموت في المخطط الكوني الكبیر للأشیاء، لقد كانت عمیقة الإیمان بالمذهب الكاثولیكي، وتصورت أن كل شيء یحدث لسبب، وأن حدوثه جزء من حكمة خفیة، ولا یمكن لأمر بأهمیة وفاة والدها المبكرة أن یحدث بلا حكمة.

وفي الأشهر اللاحقة تغیر شيء في ماري، فأصبحت جادة جدا، تكرس نفسها لواجباتها المدرسیة، وهو أمر لم تكن تلقي له بالًا في سالف الأیام، وأخذت تكتب قصصًا تزداد طولًا وتشویقًا، وقصدت كلیة محلیة للنساء، وتأثرت أستاذاتها بمهارتها في الكتابة وعمق تفكیرها؛

فانتهت إلى أن والدها كان قد أصاب في تقدیر مصیرها؛ أن تكون كاتبة.

 

وازدادت ثقتها شیئًا فشیئًا بقدراتها الإبداعیة، وقررت أن نجاحها یعتمد على خروجها من ولایة

جورجیا؛ فعیشها مع أمها في (میلدجفیل) أشعرها بالاختناق؛ وتقدمت للتسجیل في جامعة أیَوا،

وقبلت بها الجامعة، ومنحتها منحة دراسیة كاملة لسنة أكادیمیة تبدأ في سنة 1945 وتوسلت أمها إلیها أن تعید النظر في قرارها لظنها بأن طفلتها الوحیدة أضعف من أن تعیش بمفردها، إلا أن ماري كانت قد عقدت عزمها على ما أزمعت، وعندما سجلت اسمها في ورشة الكتَّاب المشهورة في الجامعة قررت أن تبسِّط اسمها إلى (فلانري أوكونور)، لتشیر به إلى هویتها الجدیدة.

ونتیجة عملها في الكتابة بعزیمة صارمة وانضباط كامل، أخذت تجتذب الاهتمام إلى قصصها

الجدیدة والشخصیات التي تذكرها فیها من أهل الجنوب، وبدا أنها مثقفة أحسن ثقافة، فكانت تخرج الخصال المعتمة والغریبة الكامنة وراء تهذیب أهل الجنوب. وجاءها وكلاء النشر والناشرون لنشر قصصها، وقُبلت قصصها في أعرق المجلات الأدبیة.

 

وانتقلت فلانري من ولایة أیوا إلى الساحل الشرقي، واستقرت في بیت ریفي في ولایة كونكتیكَت یملكه صدیقاها سالي وروبرت فیتزجیرالد اللذین قاما بتأجیرها غرفة فیه. وهناك -وبعیدًا عن الملهیات بدأت بالعمل بحماس في أولى روایاتها، وبدا لها المستقبل واعدًا جدا، وهو یَمضي تمامًا كما خططت له بعد موت والدها.

وعادت في زیارة إلى بلدة میلدجفیل في عید المیلاد سنة 1949 ، لكنها ما إن وصلت حتى سقطت صریعة المرض، وشخص لها الأطباء مرض (الكُلْیة السائبة)، وستحتاج إلى عمایة جراحیة وبعض الوقت للتعافي في المنزل. لكن كل ما أرادته هو أن تعود قافلةً إلى كونكتیكت لتكون مع أصدقائها، وتُتِمَّ روایتها التي كانت تزداد تشویقًا.

وفي النهایة، وفي شهر آذار/مارس، كانت قادرة على العودة إلى كونكتیكت، لكنها في الأشهر

القلیلة الماضیة عانت نوبات غریبة من الألم في ذراعیها، وقصدت الأطباء في نیویورك،

وشخصوا لها داء التهاب المفاصل الرثواني، وفي شهر كانون الأول/ دیسمبر كان علیها العودة من جدید إلى جورجیا في عید المیلاد، وفي القطار الذي یقلها إلى المنزل منزل أمها داهمها مرض شدید، وعندما نزلت من القطار، وقابلها خالها، كانت تكاد لا تستطیع المشي، وشعرت وكأنها فجأة تحولت إلى عجوز واهنة.

ونتیجة عذابها من آلام مفاصلها وإصابتها بحمّى شدیدة، دخلت من فورها إلى المستشفى، وقیل

لها إنها تعاني هجمة شدیدة للداء الرثواني، وأنه یلزمها أشهرًا لتستقر حالتها؛ فكان علیها البقاء في میلدجفیل لأمد غیر محدود، ولم تكن تثق كثیرًا بالأطباء، ولم تكن على یقین من صحة تشخیصهم للداء، إلا أنها كانت أضعف بكثیر من أن تجادلهم، وكانت الحمى تجعلها تشعر كأنها تموت.

وأعطاها الأطباء جرعات كبیرة من الكورتیزون بغرض معالجتها، وكان الدواءَ المعجزةَ الجدید، فخفف كثیرًا من آلامها والتهاب مفاصلها، ومنحها أیضًا دفقات من الطاقة الكثیفة التي أقلقت ذهنها وجعلته یعج بكل أنواع الأفكار الغریبة. وكان من الآثار الجانبیة للدواء أنه جعل شعرها یسقط، ووجهها ینتفخ، وفي إطار علاجها كان علیها أن تقوم بعملیات نقل دم متكررة، لقد دخلت حیاتُها فجأة في منعطف مظلم.

وبدا لها أن هناك مصادفة غریبة في أنه عند اشتداد الحمى علیها كانت تحس بأن بصرها یختفي

وحركتها تُشَلُّ، وقبل بضعة أشهر وحسب، وعندما لم تكن مریضة بعد قررت أن تجعل صاحب

الشخصیة الرئیسة في روایتها یَكُفُّ بصرَه. فهل كانت تتنبأ بمصیرها، أم أن مرضها كان موجودًا حینذاك، وجعلها تفكر بهذه الأفكار؟

وبعد شعورها بموت كعبَیها انكبت على الإسراع في كتابتها وهي في المستشفى، فأتمت  روایتها، الذي استوحته من كثرة عملیات نقل الدم التي أجریت لها ،وجعلت عنوانها: (حكمة تجري بالدم وكانت الروایة تحكي قصة شاب اسمه (هازل موتس) عقد عزمه على نشر (إنجیل الإلحاد) في عصر علمي جدید، وهو یظن أن لدیه حكمةً تجري بدمه، ولا حاجة به إلى أي نوع . من الهدایة الروحیة، ثم تقصُّ الروایة انحداره إلى الجریمة والجنون؛ وقد نشرت الروایة سنة 1952وبعد أشهر من إقامتها في المستشفى وتعافیها بما یكفي للعودة إلى المنزل، عادت فلانري إلى كونكتیكت في زیارة لصدیقیها، آملةً في أن تستطیع في المستقبل القریب أن تستعید حیاتها السابقة في بیتهما الریفي. وفي أحد الأیام، وبینما كانت تركب مع سالي في نزهة بالسیارة في الریف ذكرت فلانري داءها الرثواني، وقررت سالي أن تخبرها أخیرًا بالحقیقة التي حجبتها عنها أمها المفرِطة في حمایتها، بالاشتراك مع الأطباء  یا فلانري، أنت غیر مصابة بالتهاب المفاصل؛ بل أنت مصابة بداء الذئبة ؛ وأخذت فلانري ترتجف، وبعد بضع دقائق من الصمت، أجابت . حسنًا لیس ذلك بالخبر الجید؛ إلا أنني لن أستطیع أن أفیك حقك من الشكر لإبلاغك لي بالأمر... لقد كنت أظن بأنني مصابة بالذئبة، وكنت أظن بأنني سأجنُّ، لكنني أفضِّل أن أكون مریضة على أن أكون مجنونة.

لقد صعقها الخبر، على الرغم من رد فعلها الهادئ، لقد كان الأمر أشبه بطلقة أخرى في الجنب،

فها هو الإحساس الأول عند وفاة والدها یعود إلیها بتأثیر مضاعف، وأصبحت الآن على یقین من أنها ورثت المرض من أبیها؛ فكان علیها فجأةً أن تواجه حقیقة أنه ربما ما عاد لدیها وقت طویل لتعیشه، بالنظر إلى السرعة التي هوى بها والدها. واتضح لها الآن أنه ما من آمال ولا خطط للعیش في أي مكان خلا  میلدجفیل؛ فقصرت أمد رحلتها إلى كونكتیكت، وعادت إلى المنزل، وهي تشعر بالاكتئاب والارتباك.

وكانت أمها قد أصبحت مدیرة مزرعة العائلة، التي كانت تدعى أندلُس خارج بلدة میلدجفیل

مباشرة، فكان على فلانري أن تمضي بقیة حیاتها في هذه المزرعة مع أمها التي ستعتني بها. وبدا الأطباء یظنون أنها ستعیش الأمد الطبیعي للحیاة بفضل الدواء المعجزة الجدید، إلا أن فلانري لم تشاطرهم ثقتهم بذلك الدواء بعد أن عانت بتجربتها من آثاره الجانبیة الكثیرة، وتساءلت كم من الوقت سیستطیع جسمها تحمل تلك الآثار الجانبیة.

لقد أحبت أمها، إلا أنهما كانتا مختلفتین جدا؛ فالأم كانت من صنف النساء الذي یحب كثرة الحدیث، وكانت مهووسة بمكانتها ومظهرها. وفي الأسابیع الأولى التي مرت على فلانري بعد

عودتها شعرت بإحساس الفزع، لقد كانت دائمًا متصلبة كأبیها، وأحبت أن تعیش على طریقتها،

لكن أمها كانت حادة ومتطفلة، وفیما عدا ذلك، كانت فلانري قد ربطت قدراتها الإبداعیة بعیشها

حیاتها الخاصة خارج جورجیا، حیث قابلت العالم الواسع، وعاشت بین أقرانٍ یمكنها الحدیث معهم في مسائل جادة، وكانت تشعر بأن ذهنها یتوسع بهذه الآفاق العریضة.

أما مزرعة أندلس فكانت أشبه بسجن لها، وكانت قلقة من أن ذهنها سیكون مقیدًا بهذه الظروف، لكنها عندما تأملت في الموت الذي یتربص بها فكرت بعمق بمسیرة حیاتها؛ فكان الأمر الأهم بكل وضوح من أصدقائها، وأهم من المكان الذي تقیم فیه، وأهم من صحتها أیضًا، هو كتابتها وتعبیرها عن كل الأفكار والانطباعات التي جمعتها في حیاتها القصیرة، وكانت لدیها قصص كثیرة ترید أن تكتبها، ناهیك عن روایة أخرى أو روایتین. فلربما -وبطریقة غریبة- كانت هذه العودة الإجباریة إلى المنزل نعمة خفیة، جزءًا من حكمة خفیة في حیاتها.

وفي غرفتها في المزرعة، وبعیدًا عن العالم، لن یكون هناك ما یمكن أن یلهیها، وستبین لأمها أن ساعتین أو أكثر من الكتابة في الصباح مقدسةٌ عندها، ولن تتساهل مع أي مقاطعة فیها. وبات بإمكانها صب كل طاقتها على عملها، لتزداد تعمقًا في شخصیات قصصها، وتبث فیها الحیاة؛ فبعد أن عادت إلى قلب جورجیا، ومع استماعها بإنصات للزوار وعمال المزرعة، ستستطیع أن تسمع أصوات شخصیاتها، وأنماط أحادیثهم، تدوي في رأسها، وستشعر بعمق أكبر بالارتباط بالأرض، وبالجنوب، وهو ما بات هاجسها.

وبعد تجوالها في الأشهر الأولى من عودتها إلى دیارها، بدأت تشعر بحضور والدها في الصور

الفوتوغرافیة والأشیاء التي كان معلقًا بها، ودفاتر ملاحظاته التي اكتشفتها، وأصبح حضوره

یلاحقها، لقد أراد لها أن تصبح كاتبة؛ وكانت تعلم بذلك، ولعله أراد لها النجاح فیما أخفق فیه.

والآن بات الداء القاتل الذي تشاطراه یربط أحدهما بالآخر بقوة أكبر؛ إنها تشعر بالألم نفسه الذي ابتلي به؛ إلا أنها ستكتب وتكتب، ولن تحس بالألم، لتُخرِج بطریقة أو بأخرى القوة الكامنة التي رآها والدها فیها إذ كانت طفلة.

وعندما فكرت بهذه الطریقة أدركت أنه ما من وقت أمامها تضیعه؛ فكم سنة أخرى ستعیش

ویكون عندها الطاقة والصفاء للكتابة؟ وسیساعدها تركیزها كلَّ اهتمامِها في عملها، سیساعدها في التخلص من أي جزع ینتابها من مرضها؛ فعندما كانت تكتب كانت تنسى نفسها تمامًا، وتنشغل بشخصیات قصصها. لقد كانت تجربة شبه دینیة في صرفها الغرور عن نفسها، وقد كتبت إلى صدیقة لها تخبرها بمرضها یمكنني أن أقول وإحدى عیني حولاء، إن ذلك كله نعمة

وكانت هناك نِعَمٌ أخرى عندها أیضًا: فبعلمها المبكر بمرضها كان لدیها الوقت لتعتاد على فكرة

الموت في شبابها، كما أنه خفف من صدمتها؛ وباتت تستمتع بكل دقیقة، وكل تجربة، وتستفید كل الاستفادة من لقاءاتها المحدودة بالغرباء، ولم تكن تتوقع أشیاء كثیرة من الحیاة، وبذلك كان كل ما تحصل علیه له معنى، ولا حاجة بها إلى التذمر أو الشعور بالرثاء لحالها؛ فكل إنسان سیموت في وقت ما. ووجدت أنه بات من السهل علیها ألا تأخذ الهموم التافهة على محمل الجد؛ تلك الهموم التي بدت تقلق الآخرین كثیرًا، حتى إنه كان بوسعها النظر إلى نفسها والضحك من طموحاتها في الكتابة، والسخریة من سخافة مظهرها برأسها الأقرع، وهي تترنح هنا وهناك متكئةً على عصا.

وبعد أن عادت فلانري إلى كتابة قصصها، وقد ملأها إحساس جدید بالالتزام، شعرت بتغیر آخر في داخلها: إنه إدراك یزداد اشمئزازًا من مسار الحیاة والثقافة في أمریكا في خمسینیات القرن العشرین، لقد أحست بأن الناس یزدادون سطحیةً یومًا بعد یوم، مهووسین بالأشیاء المادیة، وانتشر بینهم الضجر كما الأطفال. لقد أصبحوا منحلِّین، عدیمي الروح، منفصلین عن ماضیهم وعن دینهم، یتخبطون بلا أي إحساس عالٍ بالهدف من الحیاة، وفي صمیم هذه المشكلات یبرز عجزهم عن مواجهة الموت وجلاله.

وقد عبرت عن شيء من ذلك في قصة استوحتها من مرضها، كان عنوانها: البرد المستمر

والشخصیة الرئیسة في القصة شاب یعود إلى دیاره في جورجیا، لیقع صریع المرض، وعندما ینزل من القطار تلقاه أمه وتصیح صیحة خافتة؛ فقد بدت مذعورة، وكان هو   مسرورًا لأنها سترى الموت في وجهه حالًا، فأمه ذات الستین خریفًا كانت تقابل الواقع لأول مرة،  وخمَّن أنها إن لم تقتلها هذه التجربة، فإنها ستساعدها في أن تنضج فقد رأت فلانري أن الناس یفقدون إنسانیتهم، وأصبحوا قادرین على ممارسة كل أنواع القسوة والوحشیة، ولم یبد علیهم أنهم یكترثون كثیرًا أحدهم بالآخر، وهم یشعرون بالتفوق على أي غریب. ولو أنه كان بوسعهم فقط أن یروا ما رأته كیف یمضي الزمن بسرعة كبیرة، وكیف یعاني الجمیع ویموتون، فسیغیر ذلك طریقتهم في الحیاة؛ وسیجعلهم ینضجون؛ وسیذیب كل البرود الذي یعتریهم، فما كان قُرَّاء قصصها بحاجة إلیه هو أن یكون عندهم (طلقة في الجنب) تخصهم، لتنفض عنهم تهاونهم ورضاهم بأنفسهم، وستنجز ذلك بأن تصف بأسلوب طبیعي قدر المستطاع الأنانیةَ والوحشیة المندستین تحت قناع شخصیات قصصها الذین یبدون في ظاهرهم بهیجین جدا، وعادیین جدا.

وكانت المشكلة الوحیدة التي على فلانري أن تواجهها في حیاتها الجدیدة هي الوحدة القاتلة في

كل ذلك، فكانت بحاجة إلى صحبة یخففون عنها، وكانت تعتمد على مجموعة الشخصیات التي

تقابلها، لتمدها بمادة لا تنضب لكتاباتها، ومع اتساع شهرتها إثر نشر روایتها حكمة تجري بالدم

ومجموعة قصصها، باتت تعوِّل على من یزورون المزرعة بین الفینة والأخرى من الكتَّاب

والمعجبین بكتاباتها، فكانت تلك اللحظات أكثر ما یسعدها، وكانت تضع كل ذرة من طاقتها في

مراقبة زوارها وسبر أغوارهم.

ولتملأ الفجوة بین هذه اللقاءات الاجتماعیة بدأت تقوم بمراسلات طویلة مع عدد یزداد من

أصدقائها ومعجبیها، وكانت تردُّ برسالة على كل من یبعث لها رسالة تقریبًا، وكانت هناك رسائل كثیرة مقلقة جدا؛ فكان هناك شاب من الغرب الأوسط یشعر بأنه مقدم على الانتحار وعلى حافة  الجنون. وكانت هناك شابة لامعة من جورجیا واسمها بیتي هستر تشعر بالعار لأنها شاذة وأفضت بسرها إلى فلانري، واستمرت المراسلة بینهما. ولم تكن فلانري تحكم على أي منهم، فهي تشعر بأنها غریبة عنهم وخارج التیار. وكانت تقدم لهذه المجموعة النامیة من الشخصیات، وغیر الأسویاء، النصیحة والعطف، وتطلب منهم دائمًا أن یصرفوا طاقاتهم إلى شيء خارج أنفسهم.

وكانت الرسائل وسیلة مثالیة لفلانري، فقد مكنتها من الاحتفاظ بشيء من المسافة الفیزیائیة

الفاصلة عن الناس؛ فقد كانت تخشى من المودة الكبیرة، فهي تعني الارتباط بأولئك الذین ستودعهم قریبًا؛ وبهذه الطریقة أقامت العالم الاجتماعي المثالي لأغراضها.

وفي یوم ربیعي من سنة 1953 زارها شاب طویل وسیم عمره 26 سنة من الدنمارك، اسمه إریك لانكیایر، وكان بائع كتب جوالًا یعمل عند ناشر كبیر، وكانت منطقة بیعه تضم معظم الجنوب، وكان قد التقى بأستاذ في كلیة محلیة عرض علیه أن یعرفه بشخصیة أدبیة عظیمة في جورجیا، وهي فلانري أوكونور، ومنذ اللحظة التي دخل فیها إلى منزلها شعرت بأن بینها وبینه نوعًا من ارتباط غامض، ووجدت فیه شابا مضحكًا حسن الاطلاع، وكان من النادر فعلًا أن تلتقي في هذا  الجزء من جورجیا بشخص خبر الحیاة والناس، وأبهرتها حیاة البائع الجوال؛ ووجدت أن من الطریف أن یحمل معه نسخة من الكتاب المقدس الذي یراه من یعملون في التجارة كتیبًا مفكك الأوصال یضم مواد دعائیة.

وكان هناك شيء ما في حیاته غیر المستقرة مَسَّ مشاعرها، فعلى غرار فلانري، مات والد

إریك في شبابه، وأفضت إلیه بما كان من أبیها وداء الذئبة الذي ورثته منه، ووجدت في إریك

شابا جذابًا، وخجلت فجأة من مظهرها، فباتت تذكر طرائف لا تنقطع عن نفسها، وأعطته نسخة

من روایتهاحكمة تجري بالدم، وكتبت علیها إهداءً قالت فیه إلى إریك، الذي تجري حكمته  بدمه أیضًا وأخذ إریك ینظم رحلاته بحیث یستطیع أن یكثر المرور ببلدة میلدجفیل، ویتابعا حواراتهما المفعمة بالحیویة، وكانت فلانري تتطلع إلى كل زیارة یزورها فیها، وتشعربوخزات الفراغ إذا غادر. وفي أیار/ مایو 1954 ، أخبرها في إحدى زیاراته لها بأنه سیترك عمله ستة أشهر یعود فیها إلى الدنمارك، واقترح أن یودعها بنزهة بالسیارة في الریف، وهي أحب الأنشطة إلیهما. وكان الوقت غسقًا، وبلا مقدمات ركن سیارته عند جانب الطریق، ومال إلیها یقبلها، ولبَّت قبلته بسرور، وكانت قبلة قصیرة، لكنها كانت بالنسبة لها قبلة لا تنسى.

وراسلته بانتظام، وكان من الواضح أنها تفتقده، وظلت تشیر بحذر إلى نزهاتهما بالسیارة، وكم

كانت تعني لها. وفي كانون الثاني/ ینایر 1955 بدأت كتابة قصة بدا أنها ستتدفق منها في غضون بضعة أیام، وكانت في العادة تكتب بحذر، وتضع لقصصها مسودات متعددة. ووضعت عنوان قصتها: أهل الریف الطیبون ، وكان من شخصیات القصة شابة متشائمة لها رِجل خشبیة، أغرم بها بائع جوال یبیع نسخًا من (الكتاب المقدس، وتخلت عن حذرها فجأة، فمكنته من إغوائها، لتلعب لعبتها معه. وبینما كانا یوشكان على المضاجعة في مخزن للتبن رجاها

أن تنزع رجلها الخشبیة؛ لتكون علامة منها على ثقتها به، وبدا ذلك أمرًا صمیمیا جدا وخرقًا لكل دفاعاتها، إلا أنها استسلمت له، لكنه هرب برجلها الخشبیة، ولم یعد إلیها أبدًا.

فكانت تدرك في قعر ذهنها بأن إریك یمد إقامته في أوروبا بطریقة أو بأخرى، وكانت القصة

طریقتها في التغلب على ذلك، ورسمت رسمًا هزلیا تصور نفسها وإیاه فیه كأنهما البائع الجوال  والفتاة العرجاء المتشائمة التي تخلت عن حذرها، وقد أخذ إریك رجلها الخشبیة. وفي نیسان/

أبریل اشتد غیابه علیها، فكتبت إلیه تقول أشعر كأنك هنا لنتمكن من التحدث عن ملایین الأشیاء

بلا توقف  لكنها في الیوم التالي لإرسالها الرسالة تلقت منه رسالة یعلمها فیها بخطبته من امرأة

دنماركیة، وأخبرها عن خطته للعودة معها إلى أمریكا، لیعود إلى وظیفته القدیمة.

لقد كانت تحس بحدسها بأن شیئًا من هذا القبیل سیحدث، إلا أن الخبر صدمها على كل حال،

وأجابته بتهذیب بالغ، مهنئةً إیاه، واستمرا في المراسلة بضع سنین أخرى، إلا أنها لم تستطع أن

تتجاوز هذه الخسارة بسهولة. لقد حاولت أن تحمي نفسها من أي مشاعر عمیقة للفراق والانفصال لأنها مشاعر فوق طاقة احتمالها، فهي أشبه بأشیاء تذكِّرها بالموت الذي سیأخذها بعیدًا في أي لحظة، أما الآخرون فسیواصلون حیاتهم وغرامیاتهم، والآن تنهال علیها مشاعر الفراق هذه نفسها.

لقد باتت تعلم الآن كیف تبدو تجربة الحب من طرف واحد، لكن الأمر كان بالنسبة إلیها مختلفًا؛

فقد كانت تعلم أن تلك كانت آخر فرصة من نوعها أمامها، وأنها ستمضي في حیاتها وحیدة إلى حدٍّ كبیر، فضاعف ذلك في مرارتها، لقد دربت نفسها على مواجهة الموت، فلماذا تحجم عن مواجهة هذه الصورة الأخیرة من المعاناة؟ وفهمت ما علیها القیام به، إنه تحویل هذه التجربة المؤلمة إلى قصص كثیرة، وإلى روایتها المقبلة، لتكون وسیلتَها في إغناء معرفتها بالناس ومكامن ضعفهم.

وفي السنوات القلیلة اللاحقة بدأت تَظهر علیها أضرار الأدویة، فقد أدى الكورتیزون إلى طراوة

في وركها وفكها، وجعل ذراعیها ضعیفتین جدا لا تقویان على الكتابة بالآلة الكاتبة. وما لبثت أن  احتاجت إلى عكاكیز للتحرك، وأصبح نور الشمس نقمة علیها؛ لأنه ینشط الطفح الجلدي لداء الذئبة، فأصبحت عندما ترید المشي تغطي كل بقعة من جسمها، حتى في حرارة الصیف الخانقة، وحاول الأطباء أن یقطعوا عنها الكورتیزون لیرتاح جسمها منه بعض الشيء، إلا أن ذلك أضعف طاقتها، وجعل الكتابة صعبة جدا علیها.

وتحت كل ضغط السنوات القلیلة الماضیة نجحت في نشر روایتین، وبضع مجموعات من

القصص القصیرة؛ وباتت تُحسَب من كبار الكتاب الأمریكیین في عصرها، على الرغم من أنها ما زالت شابة صغیرة، لكنها فجأة بدأت تشعر بالإرهاق والعجز؛ فكتبت إلى صدیق لها في ربیع سنة1962 تقول له أنا أكتب منذ 16 سنة، وعندي إحساس بأنني أنهكت قدراتي الكامنة الأصیلة،  وأنني الآن بحاجة إلى نوع من النعمة التي تعمق الفهم وفي أحد الأیام، وقبل وقت قصیر من عید المیلاد سنة 1963 ، أغمي علیها فجأة وأخذت إلى المستشفى. وشخص لها الأطباء مرض فقر الدم، وبدؤوا سلسلة من عملیات نقل الدم لإنعاشها، إلا أنها أصبحت شدیدة الضعف لا تستطیع حتى الجلوس أمام الآلة الكاتبة. وبعد بضعة أشهر اكتشف الأطباء ورمًا حمیدًا كان لا بد لهم من إزالته. وكان أشد ما یخافونه أن تعید صدمة العملیة بطریقة ما تنشیط داء الذئبة وتنشیط هجمات الحمى التي عانتها قبل عشر سنوات.

وقد بینت لأصدقائها كل ذلك في رسائلها إلیهم. ومن الغریب جدا أنها الآن وهي في أضعف أحوالها وجدت الإلهام لتكتب المزید من القصص، وتحضِّر مجموعة جدیدة منها لتنشرها في

الخریف. وفي المستشفى كانت تدرس الممرضات عن كثب، وتجد فیهم مادة لبعض شخصیات

قصصها. وعندما منعها الأطباء من الكتابة أعدت قصصًا في رأسها، وحفظتها عن ظهر قلب،

وكانت تخفي دفاتر لها تحت وسادتها، فقد كان علیها أن تستمر في الكتابة.

ونجحت العملیة الجراحیة، لكن في أواسط شهر آذار/ مارس بات واضحًا أن داء الذئبة عاد إلى

هدیره من جدید، فكانت تشبهه بالذئب یصول ویجول داخلها، یمزق كل ما حوله. وامتدت إقامتها في المستشفى، ومع ذلك وبالرغم من كل شيء تدبرت أمرها لتحظى بالساعتین الیومیتین اللتین تكتب فیهما، وهي تخفي عملها عن الممرضات والأطباء، لقد كانت في عجلة من أمرها لتنهي هذه القصص قبل أن ینتهي كل شيء.

وفي 21 حزیران/ یونیو، سمح لها أخیرًا بالعودة إلى المنزل، وأحست في قعر ذهنها بأن النهایة اقتربت، فذكرى الأیام الأخیرة لوالدها حیة قویة داخلها، وسواء كان هناك ألم أم لم یكن، فإن علیها أن تعمل لتتم القصص التي بدأتها، وتنهي مراجعتها، فإذا لم تنجح إلا في اقتناص ساعة كل یوم فلیكن لها ذلك، وكان علیها أن تستخرج كل قطرة في وعیها بقیت لها، وتستغلها، لقد أدركت أن مصیرها كاتبةً قاد حیاتها إلى ثراء لا یضاهیه ثراء، ولم یعد لدیها الآن ما تتذمر منه، أو تأسف علیه، إلا قصصها التي لم تتمها.

وفي 31 تموز/ یولیو، وبینما كانت تشاهد أمطار الصیف من نافذتها فقدت وعیها فجأة، وأُخذت

على عجل إلى المستشفى، وماتت في الساعات الأولى من یوم الثالث من آب/ أغسطس، وهي في التاسعة والثلاثین من عمرها؛ ودفنت إلى جانب والدها؛ تنفیذًا لآخر أمنیاتها.


منقول من كتاب قوانين الطبيعة البشرية لروبرت جرين