لكلٍّ منا طریقته الخاصة في النظر إلى العالم، وتفسیر الأحداث، وتفسیر تصرفات الناس من حوله؛ وذلك هو موقفه، وهو یحدد الكثیر مما یحدث لنا في حیاتنا، فإذا كان موقفنا موقفًا متخوفًا في صمیمه فإننا نرى النواحي السلبیة في كل ظرف نمر به؛ فنمنع أنفسنا من اغتنام الفرص، ونلقي باللوم على الآخرین فیما نرتكبه من أخطاء، ونخفق في التعلم من أخطائنا، وإذا خامرتنا مشاعر العداء أو الارتیاب فإننا نجعل الآخرین یشعرون بهذه العواطف إذا حضرنا .
إننا نتلف حیاتنا المهنیة، وعلاقاتنا الاجتماعیة، إذ نصنع – دون وعینا – الظروف التي نخشاها أشد الخشیة، إلا أن موقف الإنسان مطواع؛ فإذا جعلنا موقفنا ینحو إلى الإیجابیة، والانفتاح، والتسامح مع الآخرین فبإمكاننا أن نحرك في أنفسناقوة ضاغطة مختلفة؛ وبوسعنا التعلم من الشدائد، وخلق الفرص من العدم، واجتذاب الناس إلینا، ولا بد لنا من استكشاف حدود قوة إرادتنا، والمدى الذي تستطیع أن تمضي بنا إلیه.
الحریة المطلقة
عندما كان أنطون تشیخوف طفلًا ( الذي سیكون كاتبًا معروفًا ) كان یواجه صباح كل یوم شعورًا بالرهبة؛ فهل سیضربه والده في ذلك الیوم، أم أنه سیفلت من الضرب؟!
لقد كان والده (بافل إیغوروفیتش) یضربه بلا سابق إنذار، وبلا سبب واضح أحیانًا، ویضربه بقسوة مرات متعددة في الیوم الواحد؛ یضربه بالعصا، أو بالسوط، أو بظاهر یده. وما كان یزیده إرباكًا وتشویشًا أن والده لم یكن یضربه لحقد أو غضب ظاهر، وكان یقول لأنطون بأنه یفعل ذلك بدافع الحب، فإرادة لله أن یُضرَب الأولاد لغرس التواضع فیهم.
وعلى هذا النحو نشأ أنطون تشیخوف؛ وانظر إلى ما صار إلیه من تمیز وفضل، وبعد تلقي أنطون الصغیر ضرْبَ والده له كان یقبِّل ید والده، ویطلب منه الغفران، لكنه على الأقل لم یكن وحیدًا في هذا البلاء؛ فقد كان إخوته الأربعة وأخته یتلقون المعاملة نفسها.
ولم یكن الضرب الأمر الوحید الذي یخشاه أنطون، فعند الظهیرة كان یسمع خطوات والده القادمة خارج منزلهم الخشبي المتداعي، فیرتعد خوفًا؛ ففي غالب الأحیان كان والده یعود إلى المنزل في ذلك الوقت لیطلب من الصغیر أنطون أن یحل محله في دكان البقالة الذي یملكه، في بلدة تاغنروغ المنعزلة في روسیا، حیث كانت تعیش تلك العائلة، وكان البرد القارس في الدكان بردًا لا یطاق في معظم أیام السنة، وبینما كان أنطون یدیر شؤون الدكان كان یحاول كتابة واجباته المدرسیة؛ إلا أن أصابعه كانت لا تلبث أن تتخدر، ویتجمد الحبر في الدواة التي یضع فیها قلمه. وفي تلك الدكان التي یرثى لها، والتي تفوح منها رائحة اللحم الفاسد، كان علیه أن یسمع الدعابات القذرة التي یتبادلها الفلاحون الأوكرانیون الذین یعملون هناك، ویشاهد التصرفات البذیئة لأصناف السكارى؛ الذین یطوفون البلدة سعیًا وراء كؤوس الخمر، ووسط هذه الأجواء كان على أنطون أن یحرص على كل قرش یصله؛ وإلا فإنه سیتلقى المزید من الضرب المبرح من والده، وكان كثیرًا ما یُترَك ساعات في تلك الدكان، بینما یثمل والده في مكان ما.
وكانت أمه تحاول التدخل، وكانت ذات روح لطیفة ورقیقة لا نظیر لها في عین زوجها، وكانت تقول لزوجها بأن ولدها أنطون صغیر جدا على العمل في الدكان، وأنه بحاجة إلى الوقت اللازم لیدرس دروسه، وجلوسُه في دكان تتجمد من البرد یخرب صحته؛ فیرد الأب صائحًا بأن أنطون كسول بطبیعته، ولن یصبح إنسانًا محترمًا إلا بالعمل الشاق.
ولم یكن هناك راحة من حضور الأب؛ ففي یوم الأحد (العطلة الأسبوعیة) وهو الیوم الوحید الذي تغلق فیه الدكان، كان الأب یوقظ أطفاله في الساعة الرابعة أو الخامسة صباحًا، لیتدربوا على الغناء، للمشاركة مع جوقة الكنیسة؛ فقد كان هو مدیر الجوقة، فإذا عادوا من الغناء في الكنیسة ضحًى، كان علیهم إعادة تلك الأغاني بطقوسها وحدهم، ثم العودة إلى الكنیسة في قُدَّاس وقت الظهر. وعندما ینتهي كل ذلك كانوا یبلغون مرحلة من التعب والإجهاد لا یستطیعون معها اللعب.
وفي الأوقات التي كان یحظى بها أنطون لنفسه كان یتجول في أنحاء البلدة، وكانت بلدته مكانًا كئیبًا على الناشئة إذ یكبرون فیه، فواجهات معظم منازلها كانت تتفسخ وتتفتت، وكأنها خرائب قدیمة، ولم تكن الطرقات مرصوفة معبدة، فإذا ذابت الثلوج ترى الطین في كل مكان، وفیه حفر كبیرة یمكن أن یغرق فیها الأطفال حتى أعناقهم، ولم تكن في الشوارع أضواء للإنارة، وكان السجناء یكلفون بمهمة البحث عن الكلاب الضالة في الطرقات، وضربها حتى الموت، وكانت المقابر المحیطة بالبلدة هي المكان الوحید الهادئ والآمن في البلدة، وكان أنطون یكثر التردد علیها.
وكان یتساءل في تجواله عن نفسه، وعن العالم؛ فهل كان حقا بلا قیمة؛ لدرجة أنه یستحق تلقي الضرب یومیا من والده؟! لعل الأمر كذلك؛ لكن والده كان مثالًا حیا للتناقض؛ فقد كان كسولًا، سكِّیرًا، وغیر أمینٍ مطلقًا مع زبائنه، ومع ذلك كان یمتلئ بالحماسة الدینیة، وكان أهالي تاغنروغ على القدر نفسه من السخف والنفاق؛ فكان أنطون یراقبهم في المقبرة، وهم یحاولون التظاهر بالتقى والورع في موكب الجنازة، ثم یهرعون إلى التهامس، بعضهم إلى بعض، بالحلویات اللذیذة التي سیتناولونها لاحقًا في منزل أرملة المیت، وكأن ذلك هو ما جعلهم یحضرون الجنازة.
وكان ملاذه الوحید في مواجهة الأسى والسأم هو شعوره المستمر بأن علیه أن یهزأ بكل ذلك؛ فأصبح مهرج العائلة، یقلد شخصیات الناس في البلدة، ویخترع قصصًا عن حیاتهم الخاصة، وكان أحیانًا في دعاباته یتحول إلى العدوانیة؛ فكان یصنع مقالب فظة بأطفال الجیران، وإذا أرسلته أمه للتبضع من السوق، فغالبًا ما یضایق بطة حیة أو دجاجة حیة فیحملها إلى المنزل في صُرَّة. وأخذ أنطون یتحول إلى صبي شقي، وكسول للغایة.
وفي سنة 1875 ، تغیر كل شيء في أسرة تشیخوف. فأخواه الكبیران، ألكسندر ونیقولاي، ضاقا ذرعًا بالأب، فقررا الانتقال معًا إلى مدینة موسكو؛ وأراد ألكسندر الحصول على شهادة جامعیة، وأراد نیقولاي أن یصبح فنانًا (رسامًا). وأثار هذا التحدي لسلطة الأب حنق أبیهم، إلا أنه لم یكن بوسعه منعهما، وفي الوقت نفسه تقریبًا كان على الأب أخیرًا أن یواجه سوء إدارته الذریع في دكان البقالة؛ فقد تراكمت علیه الدیون على مر السنین، وآن أوان استحقاقها، ونتیجة إفلاسه، وما غلب على ظنه من أنه سیصفد في سجن الغارِمِین، تسلل خلسة من البلدة في إحدى اللیالي دون أن یخبر زوجته، وفر إلى موسكو، عازمًا على العیش مع ولدیه هناك.
وأُجبِرت الأم على بیع ممتلكات العائلة للوفاء بدیونها، وقد عرض مستأجر یعیش معهم، مساعدة الأم في الدعاوى التي تواجهها مع الدائنین، لكنها صعقت إذ استخدم علاقاته مع سلك القضاء لیسلب المنزل من عائلة تشیخوف. وأُجبرت الأم على مغادرة منزلها مع أطفالها إلى موسكو، وهي في أسوأ حال من الفقر المدقع. لكن تشیخوف بقي في البلدة، لینهي دراسته فیها، وینال شهادة المدرسة الثانویة، وكلفته أمه ببیع ما تبقى من ممتلكات العائلة، وإرسال النقود إلى موسكو بأسرع ما یمكنه. وأعطى المستأجرُ السابق الذي أصبح الآن صاحب المنزل، أعطى أنطون زاویة في إحدى غرف المنزل لیعیش فیها. وهكذا تُرِك أنطون یعتمد على نفسه في تلك البلدة؛ وهو في سن السادسة عشرة، ولا مال له، ولا عائلة تعتني به.
ولم یُترك أنطون وحیدًا هكذا من قبل، فقد كانت عائلته تملأ علیه حیاته؛ في السراء والضراء، وبدا الأمر صعبًا علیه للغایة، فلیس هناك على الإطلاق من یلتفت إلیه طلبًا للمساعدة، وألقى أنطون اللائمة على والده في هذا المصیر البائس الذي وصل إلیه، وفي احتباسه في بلدة تاغنروغ، فیمضي علیه یوم وهو یحس بالغضب والمرارة، ویمضي علیه آخر وهو یحس بالإحباط والكآبة، لكنه سرعان ما أدرك أنه لا وقت عنده لهذه العواطف؛ فقد كان بلا مال، ولا مورد یعتاش منه، ومع ذلك فإن علیه أن یتدبر أمره بطریقة أو بأخرى؛ فوظف نفسه معلمًا خصوصیا عند عدد من العائلات؛ قدر ما وسعه ذلك؛ فإذا خرجت تلك العائلات في إجازة لها فإنه غالبًا یبقى جائعًا أیامًا حتى یعودوا، وكانت سترته الوحیدة التي یلبسها سترةً رثة بالیة؛ ولم یكن لدیه حذاء مطاطي (جُرموق)یقي به قدمیه المطر الشدید، فكان یشعر بالخجل إذا دخل منازل الناس، وهو یرتعش من البرد، وقدماه مبللتان تمامًا، لكنه على الأقل بات یستطیع الآن أن یعیل نفسه.
وقرر أن یصبح طبیبًا، فقد كانت لدیه میول علمیة، ورأى أن الأطباء یكسبون قدرًا جیدًا من المال لمعیشتهم، لكن كان علیه أن یدرس بجد أكبر للدخول في كلیة الطب، ومع تردده على مكتبة البلدة -وهو المكان الوحید الذي كان یستطیع أن یدرس فیه بأمان وهدوء- بدأ أیضًا یستعرض الأقسام الأدبیة والفلسفیة في المكتبة، وما لبث أن شعر بأن عقله یحلق إلى ما هو أبعد من بلدته بكثیر، وبوجود الكتب من حوله لم یعد یشعر كثیرًا بأنه حبیس هذه البلدة، وفي اللیل، كان یعود إلى زاویته لیكتب القصص وینام، ولم یكن عنده شيء من الخصوصیة، إلا أنه كان یحافظ على زاویته نظیفة ومرتَّبة؛ لیست فیها الفوضى التي كانت معتادة في منزل آل تشیخوف.
وبدأ عقله أخیرًا یستقر، فأمسى تأتیه أفكار وعواطف جدیدة، ولم یعد العمل شیئًا یرهبه؛ بل أحب انشغال ذهنه في دراسته، وجعله تعلیم الدروس الخصوصیة یشعر بالفخر والاحترام
لنفسه؛ فقد بات بمقدوره أن یعتني بنفسه، وكانت الرسائل تصله من عائلته؛ فألكسندر طار صوابه تذمرًا من والده الذي جعل حیاتهم جمیعًا تعیسة مرة أخرى؛ ومیخائیل -أصغر الأولاد- یشعر بأنه مكتئب ولا قیمة له؛ فردَّ أنطون على أخیه ألكسندر برسالة قال له فیها: توقف عن الانشغال بوالدنا، وابدأ بالاهتمام بشأنك. وكتب لماذا تدعو نفسك في رسالتك بأنك أخوك الأصغر عدیم القیمة ؟ ؟
هل تعلم أین علیك أن تعترف بضعفك وعجزك؟ ربما یكون ذلك أمام الله ... لكنه لا یكون أمام الناس.
فبین الناس علیك أن تعرف أنك إنسان ذو قیمة وحتى أنطون نفسه، فاجأته هذه النبرة الجدیدة التي كتب بها رسائله.
وفي أحد الأیام، وبعد أن مرت علیه بضعة أشهر متروكًا وحده، كان یتجول في طرقات البلدة، وشعر فجأة بدموعه تنهمر، بسبب إحساس كبیر غلبه من التشاعر والحب لأبویه؛ فمن أین جاءه ذلك الإحساس؟! إذ لم یسبق له أن شعر به من قبل.
وفي الأیام التي سبقت تلك اللحظة، كان یفكر طویلًا وبشدة في والده؛ فهل هو حقا المُلام في كل المشكلات التي حصلت؟! وكان والد والده بافل، واسمه إیغور میخائیلوفیتش، كان وُلِد قِنا، وكانت القِنَانة صورة من صور العبودیة بعقود مدیدة (أو عقود بالسُّخْرة)؛ فكانت عائلة تشیخوف من الأقنان أجیالًا متعددة، وقد استطاع إیغور في نهایة المطاف أن یشتري حریة عائلته، ووضع أبناءه الثلاثة یعملون في ثلاثة مجالات، وكان بافل تاجر العائلة؛ إلا أن بافل لم ینجح في عمله، فقد كان صاحب فطرة فنیة، وكان من الممكن أن یكون رسامًا موهوبًا، أو موسیقیا بارعًا، وكان یشعر بالمرارة لما صار إلیه؛ فقد كان لدیه دكان بقالة وستة أولاد، وعلى الرغم من أن بافل لم یعد قنا فقد استمر بالانحناء لكل مسؤول محلي، أو صاحب أرض، وتقبیل یده، فقد بقي في صمیمه قنا.
وكان بوسع أنطون أن یرى أنه وإخوته یقعون في المشكلات نفسها؛ المرارة، والشعور الخفي بانعدام القیمة، والرغبة في إخراج غضبهم على الآخرین. والآن، وبعد أن أصبح أنطون وحیدًا، ویعتني بنفسه، بات یتوق إلى أن یصبح حرا بالمعنى الحقیقي للكلمة، فأراد أن یتحرر من الماضي، ویتحرر من والده، والآن، وهو یسیر في طرقات بلدته جاءه الجواب على رغبته بهذه العواطف الجدیدة والمفاجئة، فإذا فهم والدَه فبإمكانه أن یقبل به، أو حتى یحبه؛ فلم یكن والده طاغیة مستبدا؛ بل كان أقرب إلى عجوز عاجز، فبشيء من المسافة تفصله عنه، كان یمكنه الشعور تجاهه بالحُنُوِّ، وغفران ضربه إیاه، فلن یغرق في المشاعر السلبیة التي یثیرها فیه والده. وبوسعه أخیرًا أن یُكبِر أیضًا أمه الرؤوم، ولا یلومها على شدة ضعفها، وبعد أن أفرغ عقله من أفكار الحقد والقلق من أیام طفولته الضائعة؛ بدا وكأن حِملًا ثقیلًا قد أزیح عن كاهله.
وأقسم لنفسه ألا ینحني ویعتذر للناس بعد الآن؛ ولا یعود إلى التشكي ولوم الآخرین؛ ولا یعیش حیاة مضطربة بعد الیوم؛ ولا یضیع وقته؛ فقد كان الحل لكل ما مر به هو العمل والحب، ثم العمل والحب، وكان علیه أن ینشر هذه الرسالة في عائلته، وینقذهم مما هم فیه، وكان علیه أن یشاطرها مع سائر العالمِین، بما یكتبه من قصص ومسرحیات.
وانتقل أنطون أخیرًا إلى موسكو سنة 1879 لیكون مع عائلته، ویلتحق بكلیة الطب، لكن
ما رآه هناك أصابه بالیأس والقنوط، فعائلة تشیخوف، وبعض المستأجرین المقیمین معها كانوا جمیعًا محشورین في غرفة واحدة في قبو مبنًى سكني وسط حي البغاء، وكانت التهویة في الغرفة ضعیفة، ویكاد لا یدخلها النور، والأسوأ من ذلك كله هو معنویات ساكني الغرفة؛ فأمه سحقتها مخاوفها المستمرة من قلة المال، وسكناها في جوف الأرض، أما أبوه فازداد تعاطیه المسكرات، وكانت لدیه بعض الأعمال الغریبة؛ وهي أقل بكثیر من أن یكون صاحب عمل حقیقي، وكان مستمرا في ضرب أولاده.
ولم یعد إخوته الصغار في المدرسة فلیس بوسع العائلة تحمل تكالیفها؛ فكانوا یشعرون بأنهم عدیمو النفع تمامًا، وكان میخائیل على وجه الخصوص، أكثر اكتئابًا من أي وقت مضى، وحصل ألكسندر على عمل، كاتبًا في إحدى المجلات، إلا أنه شعر بأنه یستحق ما هو أفضل من ذلك، وبدأ یكثر من معاقرة الخمور، وكان یلوم والده على مشكلاته؛ لأنه تبعه إلى موسكو، ویلاحقه في كل خطوة یخطوها. أما نیقولاي، الفنان، فكان ینام حتى وقت متأخر من النهار، ویعمل لِمَامًا، ویمضي معظم وقته في حانة قریبة، لقد كانت العائلة بأسرها تنحدر إلى الهاویة بسرعة خطیرة، وكان جیرانهم الذین یعیشون في ذلك المبنى وفي تلك الغرفة، یزیدون الأمور سوءًا على سوء.
وانتقل الأب وألكسندر مؤخرًا من تلك الغرفة إلى مكان آخر، لكن أنطون قرر أن علیه أن یفعل نقیض ذلك، فانتقل للعیش في تلك الغرفة المزدحمة؛ لیكون المحفِّز على التغییر، ولن یلقي العظات على الآخرین، ولن یوجه الانتقادات إلیهم؛ بل سیكون لهم مثالًا یحتذى؛ فالمهم هو إبقاء العائلة مجتمعة، ورفع معنویات أفرادها؛ فبالنسبة لأمه وأخته المغلوبتین على أمریهما قرر أن یقوم بالأعمال المنزلیة. وعندما رآه إخوته یقوم بأعمال التنظیف وكي الثیاب، وافقوا على مشاركته في القیام بهذه الواجبات. وكان یقتصد في النفقات، ویدخر المال من منحته الدراسیة في كلیة الطب، وحصل على مال أیضًا من والده، ومن ألكسندر. واستطاع بما تجمع عنده من مال أن یعید إخوته الصغار میخائیل وإیفان وماریا إلى المدرسة، ونجح في العثور على عمل جید لوالده، وباستخدام
المال الذي یقدمه له والده -بالإضافة إلى مدخراته الخاصة- استطاع أن ینتقل بالعائلة كلها إلى شقة كبیرة ذات إطلالة جمیلة.
وعمل أنطون على تحسین جوانب الحیاة كلها عند عائلته، فجعل إخوته یقرؤون كتبًا اختارها لهم، وكانوا یناقشون حتى ساعة متأخرة من اللیل آخر الاكتشافات العلمیة، والأسئلة الفلسفیة، وتعززت قوة الرابطة بینهم شیئًا فشیئًا، وأخذوا ینادونه باسم: بابا أنطوشا، أي: مدیر العائلة، واختفت إلى حدٍّ كبیر مواقف التشكي، ورثاء النفس، التي كان رآها في البدایة. وبات أخواه الصغیران یتحدثان بحماسة عن مهنتیهما في المستقبل.
وكان أعظم مشاریع أنطون هو إصلاح أمر ألكسندر الذي رأى فیه أكثرَ أفرادِ العائلة موهبةً، إلا أنه أكثرهم اضطرابًا؛ فعندما یعود ألكسندر إلى المنزل وهو سكران یترنح من الثمالة یشرع في سب أمه وأخته، ویهدد بسحق وجه أنطون، وأصبحت العائلة مستسلمة لهذه الشتائم، إلا أن أنطون لم یتسامح معها، فقال لألكسندر في أحد الأیام بعد لیلة من السباب والشتائم بأنه إذا عاد وصاح في وجه أي فرد من العائلة فسیمنعه من دخول المنزل، ویتبرأ من أُخُوَّته له، وأخبره بأن علیه أن یعامل أمه وأخته باحترام، ولا یلوم والده على تحوله هو إلى معاقرة الخمور وملاحقة النساء، وبأن علیه أن یتحلى بشيء من الكرامة والوقار، فیلبس ملابس جیدة، ویعتني بنفسه. وذلك هو القانون الجدید في العائلة.
واعتذر ألكسندر عما بدر منه، وتحسن سلوكه؛ لكن المعارك معه استمرت، واقتضى ذلك من أنطون الصبر والحب؛ فقد كانت نزعة تدمیر النفس قد ترسخت عمیقًا في عائلة تشیخوف؛ فأودت بنیقولاي إلى الوفاة مبكرًا بسبب إفراطه في معاقرة المسكرات، ولولا الانتباه المستمر الذي أولاه أنطون لألكسندر للقي ألكسندر المصیر نفسه بكل بساطة، فمنعه أنطون من شرب الخمر بالتدریج، وساعده في عمله الصحفي، واستقر الأمر في نهایة المطاف بأن عاش ألكسندر حیاة هادئة مریحة.
وفي أحد أیام سنة 1884 ، أخذ أنطون یبصق دمًا، وكان من الواضح ظهور العوارض المبكرة لمرض السل علیه، ورفض أن یفحصه طبیب زمیل له، فقد فضَّل ألا یعلم بحقیقة مرضه، وأن یستمر في الكتابة، وممارسة مهنة الطب، دون أن یقلق بشأن المستقبل. لكن مع ازدیاد شهرته الذي تحقق بمسرحیاته وقصصه القصیرة، بدأ یواجه نوعًا جدیدًا من الانزعاج؛ إنه الحسد والانتقادات التافهة من زملائه من الكتَّاب، فقد قاموا بتشكیل زمر سیاسیة مختلفة، دأب كل منها على مهاجمة الأخرى، ومهاجمة أنطون نفسه الذي رفض أن یضع نفسه في صف أي قضیة ثوریة، وكل ذلك جعل أنطون یبتعد عن عالم الأدب أكثر فأكثر، فالمزاج العالي الذي صنعه لنفسه بعنایة شدیدة في بلدته القدیمة، كان یتبدد، وأصابه الاكتئاب، وأخذ یفكر في ترك الكتابة تمامًا.
وقرب نهایة سنة 1889 فكر في طریقة یحرر بها نفسه من اكتئابه الذي أخذ یطغى علیه؛ فمنذ الأیام التي عاشها في تاغنروغ، كان یفتنه الفقراء والبؤساء في المجتمع، وكان یحب أن یكتب عن اللصوص والمحتالین، ویدخل إلى عقولهم، وكان بسطاء المجتمع الروسي یقبعون في السجون، یعیشون في ظروف شنیعة، وكان أسوؤها سمعةً في روسیا سجنًا یقع في جزیرة سَخَالین قرب شمالي الیابان، وكان في السجن خمسة معسكرات عقابیة، یعتقل فیها مئات الألوف من السجناء وعائلاتهم، لقد كان ذلك السجن أشبه بدولة خفیة، فلم یكن أحد في روسیا یعلم أي شيء عما یحدث فعلًا على أرض تلك الجزیرة. وقد یكون في ذلك حل لتعاسته الحالیة، فبإمكانه القیام برحلة شاقة عبر سیبیریا للوصول إلى تلك الجزیرة، ویجري مقابلات هناك مع عتاة المجرمین، لیكتب كتابًا یفصل فیه الظروف القائمة في ذلك المعتقل، فبعیدًا عن عالم الأدب الزائف، یمكنه الاتصال بشيء حقیقي فعلًا، یعید إیقاد مزاج الأریحیة السمحة في نفسه؛ الذي كان صنعه في بلدته القدیمة.
وحاول أصدقاؤه وعائلته ثنیه عن الأمر، فصحَّتُه أخذت تسوء؛ وفي هذه الرحلة مقتله. لكنهم كلما ازدادوا في محاولة ثنیه عما أزمعه ازداد یقینًا بأنها الطریقة الوحیدة التي ینقذ بها نفسه.
وبعد رحلة دامت ثلاثة أشهر وصل أخیرًا إلى جزیرة سخالین، في شهر تموز/ یولیو سنة1890 وسارع إلى غمس نفسه في هذا العالم الجدید؛ فعمل على إجراء مقابلات مع كل سجین یمكنه إجراء مقابلة معه، بمن فیهم أعظم المجرمین جنایة، وتقصى كل جانب من جوانب حیاتهم، وشهد أبشع عملیات التعذیب للسجناء، وتبع آخرین لیراهم یعملون في مناجم الجزیرة وهم مقیدون بالعربات الیدویة، وكان على السجناء الذین ینهون تنفیذ الأحكام الصادرة بحقهم أن یبقوا غالبًا في الجزیرة في معسكرات العمل؛ لذلك كانت سخالین تكتظ بالزوجات اللاتي تنتظرن أزواجهن في تلك المعسكرات، وكانت أولئك النساء وبناتهن یلجأن إلى الدعارة لكسب أقواتهن. لقد كان كل شيء مصمَّمًا للحطِّ من معنویات الناس، واستنزاف كل قطرة من كرامتهم، وذكَّره ذلك بما سبق أن جرى في عائلته، لكن الأمر هنا كان على مستوًى أكبر بكثیر.
لقد كان ذلك بلا شك أدنى دركات الجحیم التي استطاع زیارتها، وقد أثرت فیه أبلغ تأثیر، وتاق إلى العودة إلى موسكو لیكتب عما رآه، وكان إحساسه بالتوازن قد عاد إلیه، وحرر نفسه أخیرًا من الهموم والأفكار التافهة التي كانت تثقل كاهله، فبات في وسعه الخروج من نفسه، والشعور بمشاعر القوة من جدید. وقد لفت الكتاب الذي ألَّفه بعنوان جزیرة سخالین لفت انتباه العامة، وأدى إلى إصلاحات جذریة في ظروف المعیشة على تلك الجزیرة.
وتدهورت صحته في سنة 1897 ، وبدأ یسعل دمًا دائمًا تقریبًا، ولم یعد بإمكانه إخفاء مرضه بالسل عن العالم بأسره، ونصحه الطبیب الذي كان یعالجه بالاستقالة من عمله في الطب، ومغادرة موسكو إلى الأبد؛ فقد كان بحاجة إلى الراحة، ولعله إذا عاش في مصحة أن یمد في عمره بضع سنوات، إلا أن أنطون لم یأخذ بنصیحة الطبیب، وعاش حیاته وكأن شیئًا لم یتغیر فیها.
وأخذت جماعة تؤمن به( تعلي مقامه وتُكبِره غایة الإكبار) تتشكل من حوله، وكانت تتكون من الفنانین الشباب، والمعجبین الهائمین بمسرحیاته؛ ورأى جمیعهم فیه أشهر كتاب روسیا، وكانوا یأتون لزیارته بأعداد كبیرة، وعلى الرغم من أن اعتلاله كان واضحًا، إلا أنه كان یشعُّ بالسكینة التي تذهل كل من زاره، فمن أین أتته هذه السكینة؟ وهل ولد وهي تسكُنُ فؤادَه؟! وكان یبدو مستغرقًا تمامًا في أخبارهم ومشاكلهم، ولم یسمعه أحد یتحدث عن مرضه مطلقًا.
وفي شتاء سنة 1904 ، ومع ازدیاد سوء حالته الصحیة، أراد فجأة أن یقوم بجولة في الریف بزلاجة جلیدیة مكشوفة (یقودها حصان)، فقد كان سماع صوت أجراس الزلاجة، واستنشاق الهواء البارد من أعظم متعه في الحیاة، وأراد أن یشعر بهذه المتعة مرة أخرى قبل أن یموت. وكانت تلك المتعة ترفع معنویاته عالیًا إلى درجة أنه لم یأبه بأي عواقب تنجم عنها، وكانت عاقبة ذلك ألیمة؛ فقد توفي بعد ذلك ببضعة أشهر.