قصة طريقين (قصة عن الشقاق والوفاق) قصة باولو كويليو**
قبل قرون من امتلاء وسائل الإعلام بأخبار عما يسمى (تأثيرات العولمة), حكى الشيخ (قالندار شاه) القصة التالية في كتابه (أسرار الوحدة).
في شرق (أرمينيا) كانت هناك قرية صغيرة تقع بين طريقين متوازيين, تُعرفان بالطريق الجنوبية والطريق الشمالية.
وذات يوم وفد إلى القرية مسافر قادم من مكان بعيد, جاء سائراً عبر الطريق الجنوبية, وقرر زيارة الطريق الثانية أيضاً. ولاحظ التجار المحليون امتلاء عينيه بالدموع.
وقال الجزار لتاجر الملابس (لابد أن شخصاً ما قد لقي حتفه على الطريق الجنوبية. انظر كيف يبكي هذا المسافر المسكين بعد أن مر بها).
والتقطت أذنا أحد الأطفال تلك الملحوظة, ولأنه يعرف أن الموت شيء سيئ للغاية, بدأ البكاء الهستيري. وفي الحال بكى جميع الأطفال بالشارع.
وانزعج المسافر, وقرر الرحيل على الفور. وألقى من يديه ثمار البصل التي كان يقشرها ليأكلها وهي سبب امتلاء عينيه بالدموع, ثم اختفى.
وبعد برهة, شعرت الأمهات بالقلق لبكاء أطفالهن, فأسرعن لمعرفة ما يحدث, وسرعان ما اكتشفن أن الجزار وتاجر الملابس ثم غيرهما من التجار قد انشغلوا بأمر المأساة التي وقعت على الطريق الجنوبية.
وسرعان ما انتشرت الشائعات. ولأن عدد سكان القرية محدود للغاية, عرف جميع القاطنين بالقرب من الطريقين أن شيئاً خطيراً قد حدث. وبدأ الكبار يشعرون بالخوف من حدوث الأسوأ, متوقعين الانكشاف التدريجي لأبعاد المأساة, وفضلوا عدم طرح أية أسئلة حتى لا يزيدوا الوضع سوءاً.
وكان هناك رجل أعمى يعيش عند الطريق الجنوبية ويجهل ما يحدث, ولذلك سأل: ما سبب كل هذا الحزن في مكان كان سعيداً دائماً.
فأجابه أحد السكان: هناك شيء فظيع حدث بالطريق الشمالية, فالأطفال يبكون, والرجال متجهمون, والأمهات ينادين أطفالهن ليعودوا إلى البيوت, والزائر الوحيد لهذه المدينة منذ سنوات عديدة, غادر وعيناه ممتلئتان بالدموع. ربما ضرب الطاعون الطريق الأخرى.
ولم يمر وقت طويل حتى انتشرت شائعة وجود مرض قاتل - لم يكن معروفاً من قبل - في القرية كلها. ولأن البكاء بدأ مع مجيء مسافر إلى الطريق الجنوبية, أصبح واضحاً بالنسبة لسكان الطريق الشمالي أن الطاعون لابد ظهر هناك. وقبل مجيء الليل, ترك السكان منازلهم إلى الجبال في الشرق.
واليوم - بعد قرون - مازالت القرية التي مر بها المسافر وهو يقشر البصل, مهجورة.
وغير بعيد عنها, ظهرت قريتان أخريان تدعوان (الطريق الشرقية) و(الطريق الغربية). وما زال السكان, من ذرية سكان القرية الأولى, لم يتحدثون إلى بعضهم البعض لأن الزمن والخرافة وضعا حاجزاً من الخوف بينهم.. فلقد استقر بداخلهم أنه إذا ما حاولوا إعادة الصلات, فسيواجه مجتمعهم خطراً هائلاً.
ويعلق الشيخ (قالندار شاه): لا يعتمد كل شيء في العالم على الأشياء ذاتها, بل على علاقتنا بها.
وعندما ننظر إلى عالم اليوم, نستطيع إدراك كم ما زالت كاشفة. ففي نهاية تسعينيات القرن الماضي, لابد أن مسافرنا قد انفجر بالضحك بينما كان يمر بإحدى الطرقات الكبرى للقرية الكونية. فبينما اختفى الاقتصاد القديم, برزت الأسواق المالية, سقطت الجدران, انخفضت معدلات الفائدة, وتراجعت القيم الإنسانية إلى ما كانت عليه في نهاية القرن التاسع عشر, ووصلت الحكومات المحافظة إلى السلطة. وبدا كل شيء في حالة من التناغم المثالي. وكل ما كان مفتقداً, شيء تحتاجه كل حضارة لكي تستمر.. عدو.
وكان من الصعب جداً التورط في حروب جديدة, وهكذا لم يكن ممكناً اعتبار الإبادة في (رواندا) أو الحرب الأهلية في يوغوسلافيا.. ذلك العدو.
وهكذا, وبنهاية القرن الماضي, كان الشرير الأعظم هو السيجارة. نعم, صدق أو لا تصدق, منذ وقت قريب كان التهديد الأعظم للعالم الحديث, تلك اللفافة الورقية الصغيرة المحشوة بالأوراق الجافة, بطرف مشتعل, وآخر غير مشتعل.
وقبيل الهجمات الإرهابية كان هناك مسافر آخر يطوف بالقرية الكونية وهو يأكل البصل. وعادت الحرب العادلة إلى أوربا ومعها ما ألحقته من دمار هائل, وكان ذلك في (بلجراد).
وبدأت أسواق المال تنهار, واتجه المحللون, الذين سبق ونصحونا بشراء الأسهم, إلى توقع انهيار لا يمكن تجنبه. وبدأ الناس يشعرون بالقلق على استثماراتهم وتقاعدهم وما القرارات التي يجب عليهم اتخاذها.
أما الخطر الحقيقي فظهر في صباح الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001, وبدت الإنسانية على شفا انهيار عصبي, ففي تلك اللحظة حدث شقاق كبير بين سكان (الطريق الشمالية) - ويعرفون كذلك بالمسيحية اليهودية - وبين سكان (الطريق الجنوبية) - ويعرفون كذلك بالإسلام.
ورفضت ذلك الصحف كلها, وكذلك خرجت البرامج التليفزيونية لتقول: (لا شيء تغير), وتقابل رجال الدين من كلا الطرفين في مؤتمرات دولية وعاملوا بعضهم البعض بتسامح واحترام, أما في الحياة الواقعية, فإذا كان جارنا مسيحياً أو يهودياً (في الطريق الجنوبية) أو كان الجار يذهب إلى المسجد ويطلب من زوجته ارتداء الحجاب (في الطريق الشمالية), فمن الأفضل أن نتابعه بحرص لأن شيئاً فظيعاً قد يحدث في أي لحظة.
فهل من الممكن إعادة توحيد هاتين القريتين قبل اندلاع الهستيريا وتوابعها الأشد خطورة, وهذا ما أظنه? يجب أن ننحي جانباً التحليل السياسي, الخطط الاقتصادية والدراسات الاجتماعية, لنبحث عن إجابة لسؤال رئيسي: من أكون? ولماذا أتصرف هكذا?
وليس من طريقة للقيام بذلك أفضل من النظر إلى حياتنا كما لو كانت سباق دراجات.
وعندما كنا صغاراً, وعند بداية السباق كنا ننطلق معًا متقاسمين الصداقة والحماس. ولكن مع تقدم السباق, تتراجع السعادة المبدئية أمام التحديات الواقعية - الإرهاق - الضجر - والتشكك في قدراتنا الشخصية.
ونلاحظ أن قليلاً من أصدقائنا قد استسلموا داخلياً, لكنهم ما زالوا يقودون دراجاتهم فقط لأنهم لا يستطيعون التوقف في منتصف الطريق. وكثيرون يبدلون إلى جوار السيارات الداعمة, مشغولين بمنولوجهم الداخلي للوفاء بالتزاماتهم, لكنهم غافلون عن مظاهر الجمال والتنافس على الطريق.
وتدريجياً نخلفهم وراءنا, وبعد ذلك نجد أنفسنا في مواجهة الوحدة وذلك عند المنعطفات غير المألوفة في الطريق والمشكلات الميكانيكية في دراجاتنا.
ونمر بغابات مظلمة حيث من الممكن أن يحدث أي شيء, لأنها مسكونة بأشباح مخيلتنا.
وعند مرحلة محددة, وبعد مرات معدودة من السقوط دون شخص قريب يمد يد المعاونة, نبدأ التساؤل عما إذا كان يستحق فعلاً كل ذلك الجهد.
بلى, يستحق. فذلك سؤال يهدف إلى إثارة الحماس وعدم الاستسلام.
ويقول الأب (آلان جونز): للتغلب على المعوقات, وللمشاركة في تحسين الوضع العالمي, نحتاج إلى قوانا الخفية: الحب - الموت - السلطة - والزمن.
يجب أن نحب, لأننا محبوبون, رغم أن شعورنا بالوحدة يجعلنا نعتقد في نقيض ذلك. ويجب أن ننتبه للموت حتى ندرك قيمة الحياة.
يجب أن نناضل لننمو, ولكن دون أن نترك أنفسنا لخداع السلطة التي نكتسبها خلال النضال, وذلك لأن تلك السلطة لا قيمة لها.
وفي النهاية, يجب أن نقبل بأن حياتنا - اعتقدنا أو لم نعتقد - في الفردوس القادم, في اللحظة الحالية واقعة في أسر الزمن بكل خياراته وحدوده.
ولذلك, ففي سباق الدراجات الفردي, يجب أن نتصرف كما لو كان الزمن موجوداً, ونبذل ما بوسعنا لإضفاء القيمة على كل ثانية, ويكون لنا حق الراحة عندما يكون ذلك ضرورياً ولكن مع الاستمرار في الاتجاه الذي اخترناه.
وليس من الممكن التعامل مع هذه القوى الأربع كما لو كانت مشكلات يجب حلها, لأنها تتجاوز قدرتنا. يجب أن نقبلها وندعها تعلمها ما نحتاج تعلمه.
فبينما نقوم بالتبديل تجاه هدفنا, يجب أن نسأل أنفسنا: (ما المختلف اليوم?) ربما تكون الشمس مشرقة, لكن إذا حدث وأمطرت, تذكر دائماً أن ذلك كله يعني أن السحب القاتمة ستتلاشى عما قريب. تتلاشى السحب, وتظل الشمس على حالها.. لا تختفي أبداً.
وفي لحظات الوحدة, من المهم تذكر ذلك. وخلال تلك اللحظات, لنتذكر وجود تلك القرية, وعندما يصبح المسير صعباً للغاية, يجب أن نحرص على عدم نسيان أن - بعيداً عن السباق, اللون, الوضع الاجتماعي, المعتقدات أو الثقافة - الناس الموجودين هناك مروا بالتجربة ذاتها.
ولقد كتب (ذو النون المصري) (796 - 861 م) صلاة رائعة تلخص ببراعة التوجه الذي يحتاج إليه المرء في مثل تلك الأوقات: (يا إلهي, عندما أُنصِت لأصوات الحيوانات, ولحفيف الأشجار, وخرير الماء وغناء الطيور, وهدير الريح وهزيم الرعد, أرى فيها دليلاً على وحدانيتك, أشعر أنك قهار, عليم, حكيم وعادل. يا إلهي, أُدرك وجودك في الصعاب التي أمر بها الآن. إلهي ليكن رضائي من رضائك, واجعلني مصدر بهجتك, تلك البهجة التي يستشعرها الأب في وجود طفله. ولتجعلني أذكرك في سكينة وعزم, حتى لو كان من العسير علي أن أصرح أنني أحبك).
ومثلما نعود إلى الحقائق البسيطة الموجودة داخلنا, فإننا ننأى بأنفسنا عن الهستريا الجمعية لنستطيع المشاركة بواقعية في العالم المحيط بنا.
وفي مرحلة محددة, تعترض المأساة سبيل كل إنسان: قد تكون تدمير مدينة, موت طفل, اتهامًا بغير دليل, مرضًا ينتشر دون تحذير جالباً معه عجز دائم.
وأحياناً نرث المآسي الخاصة بأجيال سابقة, كما هو الحال مع الطريق الجنوبية والطريق الشمالية.
وبعد فترة نحصل على الحب, الموت, السلطة, والزمن, وجميعها ستعاوننا للحفاظ على سكينتنا عندما يمر ثانية بالطريق التي تمر بقريتنا, سواء كان يبكي أو يضحك.
وإذا ما واجهتنا مشكلة حقيقية, فلن تستطيع الصحف أن تقنعنا بالعكس. ولو تعلق الأمر بمجرد حالة أخرى لشخص ما يقشر البصل, فلن يكون بوسع مخلصي أرض الأسلاف والحضارة أن يتملصوا ويرتكبوا جرائم باسمنا.
ومن المفيد دائماً أن نتذكر كيف تعلمنا قيادة دراجة. لم يتم ذلك بواسطة ميكانيكا القوى والكتلة الحرجة والسرعة المثالية. ليس بالجلوس أمام مدرس يشرح لنا كيف يمكن لهذه المركبة ذات العجلتين أن تستمر في التحرك.
ولم يحدث ذلك لأن شخصاً ما أخبرنا أن دراجتنا أفضل وأكثر أمناً من دراجة شخص آخر, وهكذا نستطيع القيادة بثقة.
لم يحدث ذلك لأننا أنصتنا لرأي هذا أو ذاك, أو لأننا رأينا تغطية تليفزيونية ممتدة لمسابقة (تور - دي - فرانس) أو للألعاب الأولمبية.
حدث ذلك لأننا جرؤنا على القيام بأول تبديلة. حاولنا وسقطنا وحاولنا, حتى جاء يوم, يكاد يكون إعجازياً, تمكنا فيه من حفظ اتزاننا.
ولن ننسى, حتى بعد مرور عشر سنوات أو عشرين سنة دون أن نركب دراجة.
هل ذلك قابل للتفسير?
لا.. ليس قابلاً للتفسير. لكننا نعرف كيف نقود دراجة, وهذا شيء مهم, لأننا حينئذ نستطيع زيارة قرية أخرى.. ابتداع طريق.. التخلص من خوفنا واكتشاف كم من الأشياء نشترك فيها (بما في ذلك الدراجات).
خَدعُوها بقولهم: حسناءُ والغواني يَغُرُّهن الثَّناءُ
أَتُراها تناست اسمِيَ لمّا كثُرت في غرامِها الأَسماءُ?
إِن رأَتني تميل عني, كأَن لَّم تكُ بيني وبينها أَشياءُ!
نظرةٌ, فابتسامةٌ, فسلامٌ فكلامٌ, فموعدٌ, فلقاءُ
----------------------------
قبل قرون من امتلاء وسائل الإعلام بأخبار عما يسمى (تأثيرات العولمة), حكى الشيخ (قالندار شاه) القصة التالية في كتابه (أسرار الوحدة).
في شرق (أرمينيا) كانت هناك قرية صغيرة تقع بين طريقين متوازيين, تُعرفان بالطريق الجنوبية والطريق الشمالية.
وذات يوم وفد إلى القرية مسافر قادم من مكان بعيد, جاء سائراً عبر الطريق الجنوبية, وقرر زيارة الطريق الثانية أيضاً. ولاحظ التجار المحليون امتلاء عينيه بالدموع.
وقال الجزار لتاجر الملابس (لابد أن شخصاً ما قد لقي حتفه على الطريق الجنوبية. انظر كيف يبكي هذا المسافر المسكين بعد أن مر بها).
والتقطت أذنا أحد الأطفال تلك الملحوظة, ولأنه يعرف أن الموت شيء سيئ للغاية, بدأ البكاء الهستيري. وفي الحال بكى جميع الأطفال بالشارع.
وانزعج المسافر, وقرر الرحيل على الفور. وألقى من يديه ثمار البصل التي كان يقشرها ليأكلها وهي سبب امتلاء عينيه بالدموع, ثم اختفى.
وبعد برهة, شعرت الأمهات بالقلق لبكاء أطفالهن, فأسرعن لمعرفة ما يحدث, وسرعان ما اكتشفن أن الجزار وتاجر الملابس ثم غيرهما من التجار قد انشغلوا بأمر المأساة التي وقعت على الطريق الجنوبية.
وسرعان ما انتشرت الشائعات. ولأن عدد سكان القرية محدود للغاية, عرف جميع القاطنين بالقرب من الطريقين أن شيئاً خطيراً قد حدث. وبدأ الكبار يشعرون بالخوف من حدوث الأسوأ, متوقعين الانكشاف التدريجي لأبعاد المأساة, وفضلوا عدم طرح أية أسئلة حتى لا يزيدوا الوضع سوءاً.
وكان هناك رجل أعمى يعيش عند الطريق الجنوبية ويجهل ما يحدث, ولذلك سأل: ما سبب كل هذا الحزن في مكان كان سعيداً دائماً.
فأجابه أحد السكان: هناك شيء فظيع حدث بالطريق الشمالية, فالأطفال يبكون, والرجال متجهمون, والأمهات ينادين أطفالهن ليعودوا إلى البيوت, والزائر الوحيد لهذه المدينة منذ سنوات عديدة, غادر وعيناه ممتلئتان بالدموع. ربما ضرب الطاعون الطريق الأخرى.
ولم يمر وقت طويل حتى انتشرت شائعة وجود مرض قاتل - لم يكن معروفاً من قبل - في القرية كلها. ولأن البكاء بدأ مع مجيء مسافر إلى الطريق الجنوبية, أصبح واضحاً بالنسبة لسكان الطريق الشمالي أن الطاعون لابد ظهر هناك. وقبل مجيء الليل, ترك السكان منازلهم إلى الجبال في الشرق.
واليوم - بعد قرون - مازالت القرية التي مر بها المسافر وهو يقشر البصل, مهجورة.
وغير بعيد عنها, ظهرت قريتان أخريان تدعوان (الطريق الشرقية) و(الطريق الغربية). وما زال السكان, من ذرية سكان القرية الأولى, لم يتحدثون إلى بعضهم البعض لأن الزمن والخرافة وضعا حاجزاً من الخوف بينهم.. فلقد استقر بداخلهم أنه إذا ما حاولوا إعادة الصلات, فسيواجه مجتمعهم خطراً هائلاً.
ويعلق الشيخ (قالندار شاه): لا يعتمد كل شيء في العالم على الأشياء ذاتها, بل على علاقتنا بها.
وعندما ننظر إلى عالم اليوم, نستطيع إدراك كم ما زالت كاشفة. ففي نهاية تسعينيات القرن الماضي, لابد أن مسافرنا قد انفجر بالضحك بينما كان يمر بإحدى الطرقات الكبرى للقرية الكونية. فبينما اختفى الاقتصاد القديم, برزت الأسواق المالية, سقطت الجدران, انخفضت معدلات الفائدة, وتراجعت القيم الإنسانية إلى ما كانت عليه في نهاية القرن التاسع عشر, ووصلت الحكومات المحافظة إلى السلطة. وبدا كل شيء في حالة من التناغم المثالي. وكل ما كان مفتقداً, شيء تحتاجه كل حضارة لكي تستمر.. عدو.
وكان من الصعب جداً التورط في حروب جديدة, وهكذا لم يكن ممكناً اعتبار الإبادة في (رواندا) أو الحرب الأهلية في يوغوسلافيا.. ذلك العدو.
وهكذا, وبنهاية القرن الماضي, كان الشرير الأعظم هو السيجارة. نعم, صدق أو لا تصدق, منذ وقت قريب كان التهديد الأعظم للعالم الحديث, تلك اللفافة الورقية الصغيرة المحشوة بالأوراق الجافة, بطرف مشتعل, وآخر غير مشتعل.
وقبيل الهجمات الإرهابية كان هناك مسافر آخر يطوف بالقرية الكونية وهو يأكل البصل. وعادت الحرب العادلة إلى أوربا ومعها ما ألحقته من دمار هائل, وكان ذلك في (بلجراد).
وبدأت أسواق المال تنهار, واتجه المحللون, الذين سبق ونصحونا بشراء الأسهم, إلى توقع انهيار لا يمكن تجنبه. وبدأ الناس يشعرون بالقلق على استثماراتهم وتقاعدهم وما القرارات التي يجب عليهم اتخاذها.
أما الخطر الحقيقي فظهر في صباح الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001, وبدت الإنسانية على شفا انهيار عصبي, ففي تلك اللحظة حدث شقاق كبير بين سكان (الطريق الشمالية) - ويعرفون كذلك بالمسيحية اليهودية - وبين سكان (الطريق الجنوبية) - ويعرفون كذلك بالإسلام.
ورفضت ذلك الصحف كلها, وكذلك خرجت البرامج التليفزيونية لتقول: (لا شيء تغير), وتقابل رجال الدين من كلا الطرفين في مؤتمرات دولية وعاملوا بعضهم البعض بتسامح واحترام, أما في الحياة الواقعية, فإذا كان جارنا مسيحياً أو يهودياً (في الطريق الجنوبية) أو كان الجار يذهب إلى المسجد ويطلب من زوجته ارتداء الحجاب (في الطريق الشمالية), فمن الأفضل أن نتابعه بحرص لأن شيئاً فظيعاً قد يحدث في أي لحظة.
فهل من الممكن إعادة توحيد هاتين القريتين قبل اندلاع الهستيريا وتوابعها الأشد خطورة, وهذا ما أظنه? يجب أن ننحي جانباً التحليل السياسي, الخطط الاقتصادية والدراسات الاجتماعية, لنبحث عن إجابة لسؤال رئيسي: من أكون? ولماذا أتصرف هكذا?
وليس من طريقة للقيام بذلك أفضل من النظر إلى حياتنا كما لو كانت سباق دراجات.
وعندما كنا صغاراً, وعند بداية السباق كنا ننطلق معًا متقاسمين الصداقة والحماس. ولكن مع تقدم السباق, تتراجع السعادة المبدئية أمام التحديات الواقعية - الإرهاق - الضجر - والتشكك في قدراتنا الشخصية.
ونلاحظ أن قليلاً من أصدقائنا قد استسلموا داخلياً, لكنهم ما زالوا يقودون دراجاتهم فقط لأنهم لا يستطيعون التوقف في منتصف الطريق. وكثيرون يبدلون إلى جوار السيارات الداعمة, مشغولين بمنولوجهم الداخلي للوفاء بالتزاماتهم, لكنهم غافلون عن مظاهر الجمال والتنافس على الطريق.
وتدريجياً نخلفهم وراءنا, وبعد ذلك نجد أنفسنا في مواجهة الوحدة وذلك عند المنعطفات غير المألوفة في الطريق والمشكلات الميكانيكية في دراجاتنا.
ونمر بغابات مظلمة حيث من الممكن أن يحدث أي شيء, لأنها مسكونة بأشباح مخيلتنا.
وعند مرحلة محددة, وبعد مرات معدودة من السقوط دون شخص قريب يمد يد المعاونة, نبدأ التساؤل عما إذا كان يستحق فعلاً كل ذلك الجهد.
بلى, يستحق. فذلك سؤال يهدف إلى إثارة الحماس وعدم الاستسلام.
ويقول الأب (آلان جونز): للتغلب على المعوقات, وللمشاركة في تحسين الوضع العالمي, نحتاج إلى قوانا الخفية: الحب - الموت - السلطة - والزمن.
يجب أن نحب, لأننا محبوبون, رغم أن شعورنا بالوحدة يجعلنا نعتقد في نقيض ذلك. ويجب أن ننتبه للموت حتى ندرك قيمة الحياة.
يجب أن نناضل لننمو, ولكن دون أن نترك أنفسنا لخداع السلطة التي نكتسبها خلال النضال, وذلك لأن تلك السلطة لا قيمة لها.
وفي النهاية, يجب أن نقبل بأن حياتنا - اعتقدنا أو لم نعتقد - في الفردوس القادم, في اللحظة الحالية واقعة في أسر الزمن بكل خياراته وحدوده.
ولذلك, ففي سباق الدراجات الفردي, يجب أن نتصرف كما لو كان الزمن موجوداً, ونبذل ما بوسعنا لإضفاء القيمة على كل ثانية, ويكون لنا حق الراحة عندما يكون ذلك ضرورياً ولكن مع الاستمرار في الاتجاه الذي اخترناه.
وليس من الممكن التعامل مع هذه القوى الأربع كما لو كانت مشكلات يجب حلها, لأنها تتجاوز قدرتنا. يجب أن نقبلها وندعها تعلمها ما نحتاج تعلمه.
فبينما نقوم بالتبديل تجاه هدفنا, يجب أن نسأل أنفسنا: (ما المختلف اليوم?) ربما تكون الشمس مشرقة, لكن إذا حدث وأمطرت, تذكر دائماً أن ذلك كله يعني أن السحب القاتمة ستتلاشى عما قريب. تتلاشى السحب, وتظل الشمس على حالها.. لا تختفي أبداً.
وفي لحظات الوحدة, من المهم تذكر ذلك. وخلال تلك اللحظات, لنتذكر وجود تلك القرية, وعندما يصبح المسير صعباً للغاية, يجب أن نحرص على عدم نسيان أن - بعيداً عن السباق, اللون, الوضع الاجتماعي, المعتقدات أو الثقافة - الناس الموجودين هناك مروا بالتجربة ذاتها.
ولقد كتب (ذو النون المصري) (796 - 861 م) صلاة رائعة تلخص ببراعة التوجه الذي يحتاج إليه المرء في مثل تلك الأوقات: (يا إلهي, عندما أُنصِت لأصوات الحيوانات, ولحفيف الأشجار, وخرير الماء وغناء الطيور, وهدير الريح وهزيم الرعد, أرى فيها دليلاً على وحدانيتك, أشعر أنك قهار, عليم, حكيم وعادل. يا إلهي, أُدرك وجودك في الصعاب التي أمر بها الآن. إلهي ليكن رضائي من رضائك, واجعلني مصدر بهجتك, تلك البهجة التي يستشعرها الأب في وجود طفله. ولتجعلني أذكرك في سكينة وعزم, حتى لو كان من العسير علي أن أصرح أنني أحبك).
ومثلما نعود إلى الحقائق البسيطة الموجودة داخلنا, فإننا ننأى بأنفسنا عن الهستريا الجمعية لنستطيع المشاركة بواقعية في العالم المحيط بنا.
وفي مرحلة محددة, تعترض المأساة سبيل كل إنسان: قد تكون تدمير مدينة, موت طفل, اتهامًا بغير دليل, مرضًا ينتشر دون تحذير جالباً معه عجز دائم.
وأحياناً نرث المآسي الخاصة بأجيال سابقة, كما هو الحال مع الطريق الجنوبية والطريق الشمالية.
وبعد فترة نحصل على الحب, الموت, السلطة, والزمن, وجميعها ستعاوننا للحفاظ على سكينتنا عندما يمر ثانية بالطريق التي تمر بقريتنا, سواء كان يبكي أو يضحك.
وإذا ما واجهتنا مشكلة حقيقية, فلن تستطيع الصحف أن تقنعنا بالعكس. ولو تعلق الأمر بمجرد حالة أخرى لشخص ما يقشر البصل, فلن يكون بوسع مخلصي أرض الأسلاف والحضارة أن يتملصوا ويرتكبوا جرائم باسمنا.
ومن المفيد دائماً أن نتذكر كيف تعلمنا قيادة دراجة. لم يتم ذلك بواسطة ميكانيكا القوى والكتلة الحرجة والسرعة المثالية. ليس بالجلوس أمام مدرس يشرح لنا كيف يمكن لهذه المركبة ذات العجلتين أن تستمر في التحرك.
ولم يحدث ذلك لأن شخصاً ما أخبرنا أن دراجتنا أفضل وأكثر أمناً من دراجة شخص آخر, وهكذا نستطيع القيادة بثقة.
لم يحدث ذلك لأننا أنصتنا لرأي هذا أو ذاك, أو لأننا رأينا تغطية تليفزيونية ممتدة لمسابقة (تور - دي - فرانس) أو للألعاب الأولمبية.
حدث ذلك لأننا جرؤنا على القيام بأول تبديلة. حاولنا وسقطنا وحاولنا, حتى جاء يوم, يكاد يكون إعجازياً, تمكنا فيه من حفظ اتزاننا.
ولن ننسى, حتى بعد مرور عشر سنوات أو عشرين سنة دون أن نركب دراجة.
هل ذلك قابل للتفسير?
لا.. ليس قابلاً للتفسير. لكننا نعرف كيف نقود دراجة, وهذا شيء مهم, لأننا حينئذ نستطيع زيارة قرية أخرى.. ابتداع طريق.. التخلص من خوفنا واكتشاف كم من الأشياء نشترك فيها (بما في ذلك الدراجات).
خَدعُوها بقولهم: حسناءُ والغواني يَغُرُّهن الثَّناءُ
أَتُراها تناست اسمِيَ لمّا كثُرت في غرامِها الأَسماءُ?
إِن رأَتني تميل عني, كأَن لَّم تكُ بيني وبينها أَشياءُ!
نظرةٌ, فابتسامةٌ, فسلامٌ فكلامٌ, فموعدٌ, فلقاءُ
----------------------------